الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***
{عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)} هذه السورة قوية المقاطع، ضخمة الحقائق، عميقة اللمسات، فريدة الصور والظلال والإيحاءات، موحية الإيقاعات الشعورية والموسيقية على السواء. يتولى المقطع الأول منها علاج حادث معين من حواث السيرة: كان النبي صلى الله عليه وسلم مشغولاً بأمر جماعة من كبراء قريش يدعوهم إلى الإسلام حينما جاءه ابن أم مكتوم الرجل الأعمى الفقير وهو لا يعلم أنه مشغول بأمر القوم يطلب منه أن يعلمه مما علمه الله، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا وعبس وجهه وأعرض عنه، فنزل القرآن بصدر هذه السورة يعاتب الرسول صلى الله عليه وسلم عتاباً شديداً؛ ويقرر حقيقة القيم في حياة الجماعة المسلمة في أسلوب قوي حاسم، كما يقرر حقيقة هذه الدعوة وطبيعتها: {عبس وتولى أن جآءه الأعمى. وما يدريك لعله يزكى. أو يذكر فتنفعه الذكرى. أما من استغنى فأنت له تصدى! وما عليك ألا يزكى؟ وأما من جآءك يسعى وهو يخشى، فأنت عنه تلهى؟! كلا! إنها تذكرة، فمن شآء ذكره، في صحف مكرمة، مرفوعة مطهرة، بأيدي سفرة، كرام بررة}.. ويعالج المقطع الثاني جحود الإنسان وكفره الفاحش لربه، وهو يذكره بمصدر وجوده، وأصل نشأته، وتيسير حياته، وتولي ربه له في موته ونشره؛ ثم تقصيره بعد ذلك في أمره: {قتل الإنسان مآ أكفره! من أي شيء خلقه؟ من نطفة خلقه فقدره، ثم السبيل يسره، ثم أماته فأقبره، ثم إذا شآء أنشره، كلا! لما يقض مآ أمره}.. والمقطع الثالث يعالج توجيه القلب البشري إلى أمسّ الأشياء به وهو طعامه وطعام حيوانه. وما وراء ذلك الطعام من تدبير الله وتقديره له، كتدبيره وتقديره في نشأته: {فلينظر الإنسان إلى طعامه، أنا صببنا الماء صباً. ثم شققنا الأرض شقاً، فأنبتنا فيها حباً، وعنباً وقضباً، وزيتوناً ونخلاً، وحدائق غلباً، وفاكهة وأبا، متاعاً لكم ولأنعامكم}.. فأما المقطع الأخير فيتولى عرض {الصاخة} يوم تجيء بهولها، الذي يتجلى في لفظها، كما تتجلى آثارها في القلب البشري الذي يذهل عما عداها؛ وفي الوجوه التي تحدث عما دهاها: {فإذا جآءت الصآخة. يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، وجوه يومئذ مسفرة، ضاحكة مستبشرة، ووجوه يومئذ عليها غبرة، ترهقها قترة، أولئك هم الكفرة الفجرة}.. إن استعراض مقاطع السورة وآياتها على هذا النحو السريع يسكب في الحس إيقاعات شديدة التأثير. فهي من القوة والعمق بحيث تفعل فعلها في القلب بمجرد لمسها له بذاتها. وسنحاول أن نكشف عن جوانب من الآماد البعيدة التي تشير إليها بعض مقاطعها مما قد لا تدركه النظرة الأولى. {عبس وتولى. أن جآءه الأعمى. وما يدريك لعله يزكى؟ أو يذكر فتنفعه الذكرى؟ أما من استغنى فأنت له تصدى؟ وما عليك ألا يزكى؟ وأما من جآءك يسعى وهو يخشى، فأنت عنه تلهى؟! كلا! إنها تذكرة، فمن شآء ذكره، في صحف مكرمة، مرفوعة مطهرة، بأيدي سفرة، كرام بررة}.. إن هذا التوجيه الذي نزل بشأن هذا الحادث هو أمر عظيم جداً. أعظم بكثير مما يبدو لأول وهلة. إنه معجزة، هو والحقيقة التي أراد إقرارها في الأرض، والآثار التي ترتبت على إقرارها بالفعل في حياة البشرية. ولعلها هي معجزة الإسلام الأولى، ومعجزته الكبرى كذلك. ولكن هذا التوجيه يرد هكذا تعقيباً على حادث فردي على طريقة القرآن الإلهية في اتخاذ الحادث المفرد والمناسبة المحدودة فرصة لتقرير الحقيقة المطلقة والمنهج المطرد. وإلا فإن الحقيقة التي استهدف هذا التوجيه تقريرها هنا والآثار الواقعية التي ترتبت بالفعل على تقريرها في حياة الأمة المسلمة، هي الإسلام في صميمه. وهي الحقيقة التي أراد الإسلام وكل رسالة سماوية قبله غرسها في الأرض. هذه الحقيقة ليست هي مجرد: كيف يعامل فرد من الناس؟ أو كيف يعامل صنف من الناس؟ كما هو المعنى القريب للحادث وللتعقيب. إنما هي أبعد من هذا جداً، وأعظم من هذا جداً. إنها: كيف يزن الناس كل أمور الحياة؟ ومن أين يستمدون القيم التي يزنون بها ويقدرون؟ والحقيقة التي استهدف هذا التوجيه إقرارها هي: أن يستمد الناس في الأرض قيمهم وموازينهم من اعتبارات سماوية إلهية بحتة، آتية لهم من السماء، غير مقيدة بملابسات أرضهم، ولا بموضوعات حياتهم، ولا نابعة من تصوراتهم المقيدة بهذه المواضعات وتلك الملابسات. وهو أمر عظيم جداً، كما أنه أمر عسير جداً. عسير أن يعيش الناس في الأرض بقيم وموازين آتية من السماء. مطلقة من اعتبارات الأرض. متحررة من ضغط هذه الاعتبارات. ندرك عظمة هذا الأمر وعسره حين ندرك ضخامة الواقع البشري، وثقله على المشاعر، وضغطه على النفوس، وصعوبة التخلي عن الملابسات والضغوط الناشئة من الحياة الواقعية للناس، المنبثقة من أحوال معاشهم، وارتباطات حياتهم، وموروثات بيئتهم، ورواسب تاريخهم، وسائر الظروف الأخرى التي تشدهم إلى الأرض شداً، وتزيد من ضغط موازينها وقيمها وتصوراتها على النفوس. كذلك ندرك عظمة هذا الأمر وعسره حين ندرك أن نفس محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم قد احتاجت كي تبلغه إلى هذا التوجيه من ربه؛ بل إلى هذا العتاب الشديد، الذي يبلغ حد التعجيب من تصرفه! وإنه ليكفي لتصوير عظمة أي أمر في هذا الوجود أن يقال فيه: إن نفس محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم قد احتاجت كي تبلغه إلى تنبيه وتوجيه! نعم يكفي هذا. فإن عظمة هذه النفس وسموها ورفعتها، تجعل الأمر الذي يحتاج منها كي تبلغه إلى تنبيه وتوجيه أمراً أكبر من العظمة، وأرفع من الرفعة! وهذه هي حقيقة هذا الأمر، الذي استهدف التوجيه الإلهي إقراره في الأرض، بمناسبة هذا الحادث المفرد. . أن يستمد الناس قيمهم وموازينهم من السماء، طلقاء من قيم الأرض وموازينها المنبثقة من واقعهم كله.. وهذا هو الأمر العظيم.. إن الميزان الذي أنزله الله للناس مع الرسل، ليقوّموا به القيم كلها، هو {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} هذه هي القيمة الوحيدة التي يرجح بها وزن الناس أو يشيل! وهي قيمة سماوية بحتة، لا علاقة لها بمواضعات الأرض وملابساتها إطلاقاً.. ولكن الناس يعيشون في الأرض، ويرتبطون فيما بينهم بارتباطات شتى؛ كلها ذات وزن وذات ثقل وذات جاذبية في حياتهم. وهم يتعاملون بقيم أخرى.. فيها النسب، وفيها القوة، وفيها المال، وفيها ما ينشأ عن توزيع هذه القيم من ارتباطات عملية.. اقتصادية وغير اقتصادية.. تتفاوت فيها أوضاع الناس بعضهم بالنسبة لبعض. فيصبح بعضهم أرجح من بعض في موازين الأرض.. ثم يجيء الإسلام ليقول: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} فيضرب صفحاً عن كل تلك القيم الثقيلة الوزن في حياة الناس، العنيفة الضغط على مشاعرهم، الشديدة الجاذبية إلى الأرض. ويبدل من هذا كله تلك القيمة الجديدة المستمدة مباشرة من السماء، المعترف بها وحدها في ميزان السماء! ثم يجيء هذا الحادث لتقرير هذه القيمة في مناسب واقعية محددة. وليقرر معها المبدأ الأساسي: وهو أن الميزان ميزان السماء، والقيمة قيمة السماء. وأن على الأمة المسلمة أن تدع كل ما تعارف عليه الناس، وكل ما ينبثق من علاقات الأرض من قيم وتصورات وموازين واعتبارات، لتستمد القيم من السماء وحدها وتزنها بميزان السماء وحده! ويجيء الرجل الأعمى الفقير.. ابن أم مكتوم.. إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشغول بأمر النفر من سادة قريش. عتبة وشيبة ابني ربيعة، وأبي جهل عمرو بن هشام، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة، ومعهم العباس بن عبد المطلب.. والرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الإسلام؛ ويرجو بإسلامهم خيراً للإسلام في عسرته وشدته التي كان فيها بمكة؛ وهؤلاء النفر يقفون في طريقه بمالهم وجاههم وقوتهم؛ ويصدون الناس عنه، ويكيدون له كيداً شديداً حتى ليجمدوه في مكة تجميداً ظاهراً. بينما يقف الآخرون خارج مكة، لا يقبلون على الدعوة التي يقف لها أقرب الناس إلى صاحبها، وأشدهم عصبية له، في بيئة جاهلية قبلية، تجعل لموقف القبيلة كل قيمة وكل اعتبار. يجيء هذا الرجل الأعمى الفقير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشغول بأمر هؤلاء النفر. لا لنفسه ولا لمصلحته، ولكن للإسلام ولمصلحة الإسلام. فلو أسلم هؤلاء لانزاحت العقبات العنيفة والأشواك الحادة من طريق الدعوة في مكة؛ ولانساح بعد ذلك الإسلام فيما حولها، بعد إسلام هؤلاء الصناديد الكبار. يجيء هذا الرجل، فيقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله.. ويكرر هذا وهو يعلم تشاغل الرسول صلى الله عليه وسلم بما هو فيه من الأمر. فيكره الرسول قطعه لكلامه واهتمامه. وتظهر الكراهية في وجهه الذي لا يراه الرجل فيعبس ويعرض. يعرض عن الرجل المفرد الفقير الذي يعطله عن الأمر الخطير. الأمر الذي يرجو من ورائه لدعوته ولدينه الشيء الكثير؛ والذي تدفعه إليه رغبته في نصرة دينة، وإخلاصه لأمر دعوته، وحبه لمصلحة الإسلام، وحرصه على انتشاره! وهنا تتدخل السماء. تتدخل لتقول كلمة الفصل في هذا الأمر؛ ولتضع معالم الطريق كله، ولتقرر الميزان الذي توزن فيه القيم بغض النظر عن جميع الملابسات والاعتبارات. بما في ذلك اعتبار مصلحة الدعوة كما يراها البشر. بل كما يراها سيد البشر صلى الله عليه وسلم. وهنا يجيء العتاب من الله العلي الأعلى لنبيه الكريم، صاحب الخلق العظيم، في أسلوب عنيف شديد. وللمرة الوحيدة في القرآن كله يقال للرسول الحبيب القريب: {كلا!} وهي كلمة ردع وزجر في الخطاب! ذلك أنه الأمر العظيم الذي يقوم عليه هذا الدين! والأسلوب الذي تولى به القرآن هذا العتاب الإلهي أسلوب فريد، لا تمكن ترجمته في لغة الكتابة البشرية. فلغة الكتابة لها قيود وأوضاع وتقاليد، تغض من حرارة هذه الموحيات في صورتها الحية المباشرة. وينفرد الأسلوب القرآني بالقدرة على عرضها في هذه الصورة في لمسات سريعة. وفي عبارات متقطعة. وفي تعبيرات كأنها انفعالات، ونبرات وسمات ولمحات حية! {عبس وتولى. أن جاءه الأعمى}.. بصيغة الحكاية عن أحد آخر غائب غير المخاطب! وفي هذا الأسلوب إيحاء بأن الأمر موضوع الحديث من الكراهة عند الله بحيث لا يحب سبحانه أن يواجه به نبيه وحبيبه، عطفاً عليه، ورحمة به، وإكراماً له عن المواجهة بهذا الأمر الكريه! ثم يستدير التعبير بعد مواراة الفعل الذي نشأ عنه العتاب يستدير إلى العتاب في صيغة الخطاب. فيبدأ هادئاً شيئاً ما: {وما يدريك لعله يزكى؟ أو يذكر فتنفعه الذكرى؟}.. ما يدريك أن يتحقق هذا الخير الكبير. أن يتطهر هذا الرجل الأعمى الفقير الذي جاءك راغباً فيما عندك من الخير وأن يتيقظ قلبه فيتذكر فتنفعه الذكرى. ما يدريك أن يشرق هذا القلب بقبس من نور الله، فيستحيل منارة في الأرض تستقبل نور السماء؟ الأمر الذي يتحقق كلما تفتح قلب للهدى وتمت حقيقة الإيمان فيه. وهو الأمر العظيم الثقيل في ميزان الله.. ثم تعلو نبرة العتاب وتشتد لهجته؛ وينتقل إلى التعجيب من ذلك الفعل محل العتاب: {أما من استغنى، فأنت له تصدى؟! وما عليك ألا يزكى؟! وأما من جاءك يسعى وهو يخشى، فأنت عنه تلهى؟!}. . أما من أظهر الاستغناء عنك وعن دينك وعما عندك من الهدى والخير والنور والطهارة.. أما هذا فأنت تتصدى له وتحفل أمره، وتجهد لهدايته، وتتعرض له وهو عنك معرض! {وما عليك ألا يزكى؟}.. وما يضيرك أن يظل في رجسه ودنسه؟ وأنت لا تسأل عن ذنبه. وأنت لا تُنصر به. وأنت لا تقوم بأمره.. {وأما من جاءك يسعى} طائعاً مختاراً، {وهو يخشى} ويتوقى {فأنت عنه تلهى!}.. ويسمي الانشغال عن الرجل المؤمن الراغب في الخير التقي تلهياً.. وهو وصف شديد.. ثم ترتفع نبرة العتاب حتى لتبلغ حد الردع والزجر: {كلا!}.. لا يكن ذلك أبداً.. وهو خطاب يسترعي النظر في هذا المقام. ثم يبين حقيقة هذه الدعوة وكرامتها وعظمتها ورفعتها، واستغناءها عن كل أحد. وعن كل سند. وعنايتها فقط بمن يريدها لذاتها، كائناً ما كان وضعه ووزنه في موازين الدنيا: {إنها تذكرة. فمن شاء ذكره. في صحف مكرمة. مرفوعه مطهرة. بأيدي سفرة. كرام بررة}.. فهي كريمة في كل اعتبار. كريمة في صحفها، المرفوعة المطهرة الموكل بها السفراء من الملأ الأعلى ينقلونها إلى المختارين في الأرض ليبلغوها. وهم كذلك كرام بررة.. فهي كريمة طاهرة في كل ما يتعلق بها، وما يمسها من قريب أو من بعيد. وهي عزيزة لا يُتصدى بها للمعرضين الذين يظهرون الاستغناء عنها؛ فهي فقط لمن يعرف كرامتها ويطلب التطهر بها.. هذا هو الميزان. ميزان الله. الميزان الذي توزن به القيم والاعتبارات، ويقدر به الناس والأوضاع.. وهذه هي الكلمة. كلمة الله. الكلمة التي ينتهي إليها كل قول، وكل حكم، وكل فصل. وأين هذا؟ ومتى؟ في مكة، والدعوة مطاردة، والمسلمون قلة. والتصدي للكبراء لا ينبعث من مصلحة ذاتية؛ والانشغال عن الأعمى الفقير لا ينبعث من اعتبار شخصي. إنما هي الدعوة أولاً وأخيراً. ولكن الدعوة إنما هي هذا الميزان، وإنما هي هذه القيم، وقد جاءت لتقرر هذا الميزان وهذه القيم في حياة البشر. فهي لا تعز ولا تقوى ولا تنصر إلا بإقرار هذا الميزان وهذه القيم.. ثم إن الأمر كما تقدم أعظم وأشمل من هذا الحادث المفرد، ومن موضوعه المباشر. إنما هو أن يتلقى الناس الموازين والقيم من السماء لا من الأرض، ومن الاعتبارات السماوية لا من الاعتبارات الأرضية.. {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} والأكرم عند الله هو الذي يستحق الرعاية والاهتمام والاحتفال، ولو تجرد من كل المقومات والاعتبارات الأخرى، التي يتعارف عليها الناس تحت ضغط واقعهم الأرضي ومواضعاتهم الأرضية. النسب والقوة والمال.. وسائر القيم الأخرى، لا وزن لها حين تتعرى عن الإيمان والتقوى. والحالة الوحيدة التي يصح لها فيها وزن واعتبار هي حالة ما إذا أنففت لحساب الإيمان والتقوى. هذه هي الحقيقة الكبيرة التي استهدف التوجيه الإلهي إقرارها في هذه المناسبة، على طريقة القرآن في اتخاذ الحادث المفرد والمناسبة المحدودة، وسيلة لإقرار الحقيقة المطلقة والمنهج المطرد. ولقد انفعلت نفس الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا التوجيه، ولذلك العتاب. انفعلت بقوة وحرارة، واندفعت إلى إقرار هذه الحقيقة في حياته كلها، وفي حياة الجماعة المسلمة. بوصفها هي حقيقة الإسلام الأولى. وكانت الحركة الأولى له صلى الله عليه وسلم هي إعلان ما نزل له من التوجيه والعتاب في الحادث. وهذا الإعلان أمر عظيم رائع حقاً. أمر لا يقوى عليه إلا رسول، من أي جانب نظرنا إليه في حينه. نعم لا يقوى إلا رسول على أن يعلن للناس أنه عوتب هذا العتاب الشديد، بهذه الصورة الفريدة في خطأ أتاه! وكان يكفي لأي عظيم غير الرسول أن يعرف هذا الخطأ وأن يتلافاه في المستقبل. ولكنها النبوة. أمر آخر. وآفاق أخرى! لا يقوى إلا رسول على أن يقذف بهذا الأمر هكذا في وجوه كبراء قريش في مثل تلك الظروف التي كانت فيها الدعوة، مع أمثال هؤلاء المستعزين بنسبهم وجاههم ومالهم وقوتهم، في بيئة لا مكان فيها لغير هذه الاعتبارات، إلى حد أن يقال فيها عن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم: {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم!} وهذا نسبه فيهم، لمجرد أنه هو شخصياً لم تكن له رياسة فيهم قبل الرسالة! ثم إنه لا يكون مثل هذا الأمر في مثل هذه البيئة إلا من وحي السماء. فما يمكن أن ينبثق هذا من الأرض.. ومن هذه الأرض بذاتها في ذلك الزمان!! وهي قوة السماء التي دفعت مثل هذا الأمر في طريقه؛ فإذا هو ينفذ من خلال نفس النبي صلى الله عليه وسلم إلى البيئة من حوله؛ فيتقرر فيها بعمق وقوة واندفاع، يطرد به أزماناً طويلة في حياة الأمة المسلمة. لقد كان ميلاداً جديداً للبشرية كميلاد الإنسان في طبيعته. وأعظم منه خطراً في قيمته.. أن ينطلق الإنسان حقيقة شعوراً وواقعاً من كل القيم المتعارف عليها في الأرض، إلى قيم أخرى تتنزل له من السماء منفصلة منعزلة عن كل ما في الأرض من قيم وموازين وتصورات واعتبارات وملابسات عملية، وارتباطات واقعية ذات ضغط وثقل، ووشائج متلبسة باللحم والدم والأعصاب والمشاعر. ثم أن تصبح القيم الجديدة مفهومة من الجميع، مسلماً بها من الجميع. وأن يستحيل الأمر العظيم الذي احتاجت نفس محمد صلى الله عليه وسلم- كي تبلغه إلى التنبيه والتوجيه، أن يستحيل هذا الأمر العظيم بديهية الضمير المسلم، وشريعة المجتمع المسلم، وحقيقة الحياة الأولى في المجتمع الإسلامي لآماد طويلة في حياة المسلمين. إننا لا نكاد ندرك حقيقة ذلك الميلاد الجديد. لأننا لا نتمثل في ضمائرنا حقيقة هذا الانطلاق من كل ما تنشئه أوضاع الأرض وارتباطاتها من قيم وموازين واعتبارات ساحقة الثقل إلى الحد الذي يخيل لبعض أصحاب المذاهب «التقدمية!» أن جانباً واحداً منها هو الأوضاع الاقتصادية هو الذي يقرر مصائر الناس وعقائدهم وفنونهم وآدابهم وقوانينهم وعرفهم وتصورهم للحياة! كما يقول أصحاب مذهب التفسير المادي للتاريخ في ضيق أفق، وفي جهالة طاغية بحقائق النفس وحقائق الحياة! إنها المعجزة. معجزة الميلاد الجديد للإنسان على يد الإسلام في ذلك الزمان.. ومنذ ذلك الميلاد سادت القيم التي صاحبت ذلك الحادث الكوني العظيم.. ولكن المسألة لم تكن هينة ولا يسيرة في البيئة العربية، ولا في المسلمين أنفسهم.. غير أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استطاع بإرادة الله، وبتصرفاته هو وتوجيهاته المنبعثة من حرارة انفعاله بالتوجيه القرآني الثابت أن يزرع هذه الحقيقة في الضمائر وفي الحياة؛ وأن يحرسها ويرعاها، حتى تتأصل جذورها وتمتد فروعها، وتظلل حياة الجماعة المسلمة قروناً طويلة.. على الرغم من جميع عوامل الانتكاس الأخرى.. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا الحادث يهش لابن أم مكتوم ويرعاه؛ ويقول له كلما لقيه: «أهلاً بمن عاتبني فيه ربي» وقد استخلفه مرتين بعد الهجرة على المدينة.. ولكي يحطم موازين البيئة وقيمها المنبثقة من اعتبار الأرض ومواضعاتها، زوج بنت خالته زينب بنت جحش الأسدية، لمولاه زيد بن حارثة. ومسألة الزواج والمصاهرة مسألة حساسة شديدة الحساسية. وفي البيئة العربية بصفة خاصة. وقبل ذلك حينما آخى بين المسلمين في أول الهجرة، جعل عمه حمزة ومولاه زيداً أخوين. وجعل خالد ابن رويحة الخثعمي وبلال بن رباح أخوين! وبعث زيداً أميراً في غزوة مؤته، وجعله الأمير الأول، يليه جعفر بن أبي طالب، ثم عبد الله بن رواحه الأنصاري، على ثلاثة آلاف من المهاجرين والأنصار، فيهم خالد بن الوليد. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه يشيعهم.. وهي الغزوة التي استشهد فيها الثلاثة رضي الله عنهم. وكان آخر عمل من أعماله صلى الله عليه وسلم أن أمَّر أسامة بن زيد على جيش لغزو الروم، يضم كثرة من المهاجرين والأنصار، فيهم أبو بكر وعمر وزيراه، وصاحباه، والخليفتان بعده بإجمال المسلمين. وفيهم سعد بن أبي وقاص قريبه- صلى الله عليه وسلم-ومن أسبق قريش إلى الإسلام. وقد تململ بعض الناس من إمارة أسامة وهو حدث. وفي ذلك قال ابن عمر رضي الله عنهما-: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم- بعثاً أمر عليهم أسامة بن زيد رضي الله عنهما فطعن بعض الناس في إمارته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل. وأيم الله إن كان لخليقاً للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إليّ. وإن هذا لمن أحب الناس إلي». ولما لغطت ألسنة بشأن سلمان الفارسي، وتحدثوا عن الفارسية والعربية، بحكم إيحاءات القومية الضيقة، ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ضربته الحاسمة في هذا الأمر فقال: «سلمان منا أهل البيت» فتجاوز به بقيم السماء وميزانها كل أفاق النسب الذي يستعزون به، وكل حدود القومية الضيقة التي يتحمسون لها.. وجعلة من أهل البيت رأساً! ولما وقع بين أبي ذر الغفاري وبلال بن رباح رضي الله عنما ما أفلت معه لسان أبي ذر بكلمة «يا بن السوداء».. غضب لها رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً؛ وألقاها في وجهه أبي ذر عنيفة مخيفة: «يا أبا ذر طفّ الصاع ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل» ففرق في الأمر إلى جذوره البعيدة.. إما إسلام فهي قيم السماء وموازين السماء. وإما جاهلية فهي قيم الأرض وموازين الأرض! ووصلت الكلمة النبوية بحرارتها إلى قلب أبي ذر الحساس؛ فانفعل لها أشد الانفعال، ووضع جبهته على الأرض يقسم ألا يرفعها حتى يطأها بلال. تكفيراً عن قولته الكبيرة! وكان الميزان الذي ارتفع به بلال هو ميزان السماء.. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام منفعة عندك. فإني سمعت الليلة خشف نعليك بين يدي في الجنة» فقال: ما عملت في الإسلام عملاً أرجى عندي منفعة من أني لا أتطهر طهوراً تاماً في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عن عمار بن ياسر وقد استأذن عليه: «ائذنوا له مرحباً بالطيب المطيب». وقال عنه: «ملئ عمار رضي الله عنه إيماناً إلى مشاشه». وعن حذيفة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني لا أدري ما بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي وأشار إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما واهتدوا بهدي عمار. وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه». وكان ابن مسعود يحسبه الغريب عن المدينة من أهل بيت رسول الله.. عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قدمت أنا وأخي من اليمن، فمكثنا حيناً وما نرى ابن مسعود وأمه إلا من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثرة دخولهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولزومهم له «. وجليبيب وهو رجل من الموالي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب له بنفسه ليزوجه امرأة من الأنصار. فلما تأبى أبواها قالت هي: أتريدون أن تردوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره؟ إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه. فرضيا وزوجاها. وقد افتقده رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوقعة التي استشهد فيها بعد فترة قصيرة من زواجه.. عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مغزى له، فأفاء الله عليه. فقال لأصحابه: «هل تفقدون من أحد؟» قالوا: نعم فلاناً وفلاناً وفلاناً. ثم قال: «هل تفقدون من أحد؟» قالوا: نعم. فلاناً وفلاناً وفلاناً. ثم قال: «هل تفقدون من أحد؟» فقالوا: لا. قال: «لكني أفقد جليبيباً» فطلبوه، فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فوقف عليه، ثم قال: «قتل سبعة ثم قتلوه. هذا مني وأنا منه. هذا مني وأنا منه. ثم وضعه على ساعديه، ليس له سرير إلا ساعدا النبي صلى الله عليه وسلم قال: فحفر له، ووضع في قبره ولم يذكر غسلاً». بذلك التوجيه الإلهي وبهذا الهدي النبوي كان الميلاد للبشرية على هذا النحو الفريد. ونشأ المجتمع الرباني الذي يتلقى قيمه وموازينه من السماء، طليقاً من قيود الأرض، بينما هو يعيش على الأرض.. وكانت هذه هي المعجزة الكبرى للإسلام. المعجزة التي لا تتحقق إلا بإرادة إله، وبعمل رسول. والتي تدل بذاتها على أن هذا الدين من عند الله، وأن الذي جاء به للناس رسول! وكان من تدبير الله لهذا الأمر أن يليه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه الأول أبو بكر، وصاحبه الثاني عمر.. أقرب اثنين لإدراك طبيعة هذا الأمر، وأشد اثنين انطباعاً بهدي رسول الله، وأعمق اثنين حباً لرسول الله، وحرصاً على تتبع مواضع حبه ومواقع خطاه. حفظ أبو بكر رضي الله عنه عن صاحبه صلى الله عليه وسلم ما أراده في أمر أسامة. فكان أول عمل له بعد توليه الخلافة هو إنفاذه بعث أسامة، على رأس الجيش الذي أعده رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار يودعه بنفسه إلى ظاهر المدينة. أسامة راكب وأبو بكر الخليفة راجل. فيستحي أسامة الفتى الحدث أن يركب والخليفة الشيخ يمشي. فيقول: «يا خليفة رسول الله لتركبن أو لأنزلن».. فيقسم الخليفة: «والله لا تنزل. ووالله لا أركب. وما علي أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة؟».. ثم يرى أبو بكر أنه في حاجة إلى عمر. وقد حمل عبء الخلافة الثقيل. ولكن عمر إنما هو جندي في جيش أسامة. وأسامة هو الأمير. فلا بد من استئذانه فيه. فإذا الخليفة يقول: «إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل».. يالله! إن رأيت أن تعينني فافعل.. إنها آفاق عوال. لا يرقى إليها الناس إلا بإرادة الله، على يدي رسول من عند الله! ثم تمضي عجلة الزمن فنرى عمر بن الخطاب خليفة يولي عمار بن ياسر على الكوفة. ويقف بباب عمر سهيل بن عمرو بن الحارث بن هشام، وأبو سفيان بن حرب، وجماعة من كبراء قريش من الطلقاء! فيأذن قبلهم لصهيب وبلال. لأنهما كانا من السابقين إلى الإسلام ومن أهل بدر. فتورم أنف أبي سفيان، ويقول بانفعال الجاهلية: «لم أر كاليوم قط. يأذن لهؤلاء العبيد ويتركنا على بابه!».. فيقول له صاحبه وقد استقرت في حسه حقيقة الإسلام: «أيها القوم. إني والله أرى الذي في وجوهكم. إن كنتم غضاباً فاغضبوا على أنفسكم. دعي القوم إلى الإسلام ودعيتم. فأسرعوا وأبطأتم. فكيف بكم إذا دعوا يوم القيامة وتركتم؟». ويفرض عمر لأسامة بن زيد أكبر مما يفرض لعبد الله بن عمر. حتى إذا سأله عبد الله عن سر ذلك قال له: «يا بني. كان زيد رضي الله عنه أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك! وكان أسامة رضي الله عنه أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك! فآثرت حب رسول الله صلى الله عليه وسلم على حبي».. يقولها عمر وهو يعلم أن حب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان مقوماً بميزان السماء! ويرسل عمر عماراً ليحاسب خالد بن الوليد القائد المظفر صاحب النسب العريق فيلببه بردائه.. ويروى أنه أوثقه بشال عمامته حتى ينتهي من حسابه فتظهر براءته فيفك وثاقه ويعممه بيده.. وخالد لا يرى في هذا كله بأساً. فإنما هو عمار صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم السابق إلى الإسلام الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال! وعمر هو الذي يقول عن أبي بكر رضي الله عنهما هو سيدنا وأعتق سيدنا. يعني بلالاً. الذي كان مملوكاً لأمية بن خلف. وكان يعذبه عذاباً شديداً. حتى اشتراه منه أبو بكر وأعتقه.. وعنه يقول عمر بن الخطاب.. عن بلال.. سيدنا! وعمر هو الذي قال: «ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً لاستخلفته» يقول هذا، وهو لم يستخلف عثمان ولا علياً، ولا طلحة ولا الزبير.. إنما جعل الشورى في الستة بعده ولم يستخلف أحداً بذاته! وعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه يرسل عماراً والحسن بن علي رضي الله عنهما إلى أهل الكوفة يستنفرهم في الأمر الذي كان بينه وبين عائشة رضي الله عنها فيقول: «إني لأعلم أنها زوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم لتتبعوه أو تتبعوها».. فيسمع له الناس في شأن عائشة أم المؤمنين، وبنت الصديق أبي بكر رضي الله عنهم جميعاً. وبلال بن رباح يرجوه أخوه في الإسلام أبو رويحة الخثعمي أن يتوسط له في الزواج من قوم من أهل اليمن. فيقول لهم: «أنا بلال بن رباح، وهذا أخي أبو رويحة، وهو امرؤ سوء في الخلق والدين. فإن شئتم أن تزوجوه فزوجوه، وإن شئتم أن تدعوا فدعوا».. فلا يدلس عليهم، ولا يخفى من أمر أخيه شيئاً، ولا يذكر أنه وسيط وينسى أنه مسؤول أمام الله فيما يقول.. فيطمئن القوم إلى هذا الصدق.. ويزوجون أخاه، وحسبهم وهو العربي ذو النسب أن يكون بلال المولى الحبشي وسيطه! واستقرت تلك الحقيقة الكبيرة في المجتمع الإسلامي، وظلت مستقرة بعد ذلك آماداً طويلة على الرغم من عوامل الانتكاس الكثيرة. «وقد كان عبد الله بن عباس يذكر ويذكر معه مولاه عكرمه. وكان عبد الله ابن عمر يذكر ويذكر معه مولاه نافع. وأنس بن مالك ومعه مولاه ابن سيرين. وأبو هريرة ومعه مولاه عبد الرحمن بن هرمز. وفي البصرة كان الحسن البصري. وفي مكة كان مجاهد بن جبر، وعطاء بن رباح، وطاووس بن كيسان هم الفقهاء. وفي مصر تولى الفتيا يزيد بن أبي حبيب في أيام عمر بن عبد العزيز وهو مولى أسود من دنقلة».. وظل ميزان السماء يرجح بأهل التقوى ولو تجردوا من قيم الأرض كلها.. في اعتبار أنفسهم وفي اعتبار الناس من حولهم. ولم يرفع هذا الميزان من الأرض إلا قريباً جداً بعد أن طغت الجاهلية طغياناً شاملاً في أنحاء الأرض جميعاً. وأصبح الرجل يقوم برصيده من الدولارات في أمريكا زعيمة الدول الغربية. وأصبح الإنسان كله لا يساوي الآلة في المذهب المادي المسيطر في روسيا زعيمة الدول الشرقية. أما أرض المسلمين فقد سادت فيها الجاهلية الأولى، التي جاء الإسلام ليرفعها من وهدتها؛ وانطلقت فيها نعرات كان الإسلام قد قضى عليها. وحطمت ذلك الميزان الإلهي وارتدت إلى قيم جاهلية زهيدة لا تمت بصلة إلى الإيمان والتقوى.. ولم يعد هنالك إلا أمل يناط بالدعوة الإسلامية أن تنقذ البشرية كلها مرة أخرى من الجاهلية؛ وأن يتحقق على يديها ميلاد جديد للإنسان كالميلاد الذي شهدته أول مرة، والذي جاء ذلك الحادث الذي حكاه مطلع هذه السورة ليعلنه في تلك الآيات القليلة الحاسمة العظيمة.. وبعد تقرير تلك الحقيقة الكبيرة في ثنايا التعقيب على ذلك الحادث، في المقطع الأول من السورة، يعجب السياق في المقطع الثاني من أمر هذا الإنسان، الذي يعرض عن الهدى، ويستغني عن الإيمان، ويستعلي على الدعوة إلى ربه.. يعجب من أمره وكفره، وهو لا يذكر مصدر وجوده، وأصل نشأته، ولا يرى عناية الله به وهيمنته كذلك على كل مرحلة من مراحل نشأته في الأولى والآخرة؛ ولا يؤدي ما عليه لخالقه وكافله ومحاسبه: {قتل الإنسان ما أكفره! من أي شيء خلقه؟ من نطفة خلقه فقدره. ثم السبيل يسره. ثم أماته فأقبره. ثم إذا شاء أنشره. كلا! لما يقض ما أمره}.. {قتل الإنسان!}.. فإنه ليستحق القتل على عجيب تصرفه.. فهي صيغة تفظيع وتقبيح وتشنيع لأمره. وإفادة أنه يرتكب ما يستوجب القتل لشناعته وبشاعته.. {ما أكفره!}.. ما أشد كفره وجحوده ونكرانه لمقتضيات نشأته وخلقته. ولو رعى هذه المقتضيات لشكر خالقه، ولتواضع في دنياه، ولذكر آخرته.. وإلا فعلام يتكبر ويستغني ويعرض.؟ وما هو أصله وما هو مبدؤه؟ {من أي شيء خلقه؟}.. إنه أصل متواضع زهيد، يستمد كل قيمته من فضل الله ونعمته، ومن تقديره وتدبيره: {من نطفة خلقه فقدره}.. من هذا الشيء الذي لا قيمة له؛ ومن هذا الأصل الذي لا قوام له.. ولكن خالقه هو الذي قدره. قدره. من تقدير الصنع وإحكامه. وقدره: من منحه قدراً وقيمة فجعله خلقاً سوياً، وجعله خلقاً كريماً. وارتفع به من ذلك الأصل المتواضع، إلى المقام الرفيع الذي تسخر له فيه الأرض وما عليها. {ثم السبيل يسره}.. فمهد له سبيل الحياة. أو مهد له سبيل الهداية. ويسره لسلوكه بما أودعه من خصائص واستعدادات. سواء لرحلة الحياة، أو للاهتداء فيها. حتى إذا انتهت الرحلة، صار إلى النهاية التي يصير إليها كل حي. بلا اختيار ولا فرار: {ثم أماته فأقبره}.. فأمره في نهايته كأمره في بدايته، في يد الذي أخرجه إلى الحياة حين شاء، وأنهى حياته حين شاء، وجعل مثواه جوف الأرض، كرامة له ورعاية، ولم يجعل السنة أن يترك على ظهرها للجوارح والكواسر. وأودع فطرته الحرص على مواراة ميته وقبره. فكان هذا طرفاً من تدبيره له وتقديره. حتى إذا حان الموعد الذي اقتضته مشيئته، أعاده إلى الحياة لما يراد به من الأمر: {ثم إذا شاء أنشره}.. فليس متروكاً سدى؛ ولا ذاهباً بلا حساب ولا جزاء. . فهل تراه تهيأ لهذا الأمر واستعد؟ {كلا! لما يقض ما أمره}.. الإنسان عامة، بأفراده جملة، وبأجياله كافة.. لما يقض ما أمره.. إلى آخر لحظة في حياته. وهو الإيحاء الذي يلقيه التعبير بلما. كلا إنه لمقصر، لم يؤد واجبه. لم يذكر أصله ونشأته حق الذكرى.. ولم يشكر خالقه وهاديه وكافله حق الشكر. ولم يقض هذه الرحلة على الأرض في الاستعداد ليوم الحساب والجزاء.. هو هكذا في مجموعه. فوق أن الكثرة تعرض وتتولى، وتستغني وتتكبر على الهدى! وينتقل السياق إلى لمسة أخرى في مقطع جديد.. فتلك هي نشأة هذا الإنسان.. فهلا نظر إلى طعامه وطعام أنعامه في هذه الرحلة؟ وهي شيء واحد من أشياء يسرها له خالقه؟ {فلينظر الإنسان إلى طعامه. أنا صببنا المآء صباً. ثم شققنا الأرض شقاً. فأنبتنا فيها حباً، وعنباً وقضباً. وزيتوناً ونخلاً. وحدآئق غلباً. وفاكهة وأبا. متاعاً لكم ولأنعامكم}.. هذه هي قصة طعامه. مفصلة مرحلة مرحلة. هذه هي فلينظر إليها؛ فهل له من يد فيها؟ هل له من تدبير لأمرها؟ إن اليد التي أخرجته إلى الحياة وأبدعت قصته، هي ذاتها اليد التي أخرجت طعامه وأبدعت قصته.. {فلينظر الإنسان إلى طعامه}.. ألصق شيء به، وأقرب شيء إليه، وألزم شيء له.. لينظر إلى هذا الأمر الميسر الضروري الحاضر المكرر. لينظر إلى قصته العجيبة اليسيرة، فإن يسرها ينسيه ما فيها من العجب. وهي معجزة كمعجزة خلقه ونشأته. وكل خطوة من خطواتها بيد القدرة التي أبدعته: {أنا صببنا الماء صباً}.. وصب الماء في صورة المطر حقيقة يعرفها كل إنسان في كل بيئة، في أية درجة كان من درجات المعرفة والتجربة. فهي حقيقة يخاطب بها كل إنسان. فأما حين تقدم الإنسان في المعرفة فقد عرف من مدلول هذا النص ما هو أبعد مدى وأقدم عهداً من هذا المطر الذي يتكرر اليوم ويراه كل أحد. وأقرب الفروض الآن لتفسير وجود المحيطات الكبيرة التي يتبخر ماؤها ثم ينزل في صورة مطر، أقرب الفروض أن هذه المحيطات تكونت أولاً في السماء فوقنا ثم صبت على الأرض صباً! وفي هذا يقول أحد علماء العصر الحاضر: «إذا كان صحيحاً أن درجة حرارة الكرة الأرضية وقت انفصالها عن الشمس كانت حوالي 12 000 درجة. أو كانت تلك درجة حرارة سطح الأرض. فعندئذ كانت كل العناصر حرة. ولذا لم يكن في الإمكان وجود أي تركيب كيميائي ذي شأن. ولما أخذت الكرة الأرضية، أو الأجزاء المكونة لها في أن تبرد تدريجياً، حدثت تركيبات، وتكونت خلية العالم كما نعرفه. وما كان للأكسيجين والهيدروجين أن يتحدا إلا بعد أن هبطت درجة الحرارة إلى 4000 درجة فارنهايت. وعند هذه النقطة اندفعت معاً تلك العناصر، وكونت الماء الذي نعرفه الآن أنه هواء الكرة الأرضية. ولا بد أنه كان هائلاً في ذلك الحين. وجميع المحيطات كانت في السماء. وجميع تلك العناصر التي لم تكن قد اتحدت كانت غازات في الهواء. وبعد أن تكون الماء في الجو الخارجي سقط نحو الأرض. ولكنه لم يستطع الوصول إليها. إذ كانت درجة الحرارة على مقربة من الأرض أعلى مما كانت على مسافة آلاف الأميال. وبالطبع جاء الوقت الذي صار الطوفان يصل فيه إلى الأرض ليطير منها ثانياً في شكل بخار. ولما كانت المحيطات في الهواء فإن الفيضانات التي كانت تحدث مع تقدم التبريد كانت فوق الحسبان. وتمشى الجيشان مع التفتت.... الخ؟ «. وهذا الفرض ولو أننا لا نعلق به النص القرآني يوسع من حدود تصورنا نحن للنص والتاريخ الذي يشير إليه. تاريخ صب الماء صباً. وقد يصح هذا الفرض، وقد تجدّ فروض أخرى عن أصل الماء في الأرض. ويبقى النص القرآني صالحاً لأن يخاطب به كل الناس في كل بيئة وفي كل جيل. ذلك كان أول قصة الطعام: {أنا صببنا الماء صباً}.. ولا يزعم أحد أنه أنشأ هذا الماء في أي صورة من صوره، وفي أي تاريخ لحدوثه؛ ولا أنه صبه على الأرض صباً، لتسير قصة الطعام في هذا الطريق! {ثم شققنا الأرض شقاً}.. وهذه هي المرحلة التالية لصب الماء. وهي صالحة لأن يخاطب بها الإنسان البدائي الذي يرى الماء ينصب من السماء بقدرة غير قدرته، وتدبير غير تدبيره. ثم يراه يشق الأرض ويتخلل تربتها. أو يرى النبت يشق تربة الأرض شقاً بقدرة الخالق وينمو على وجهها، ويمتد في الهواء فوقها.. وهو نحيل نحيل، والأرض فوقه ثقيلة ثقيلة. ولكن اليد المدبرة تشق له الأرض شقاً، وتعينه على النفاذ فيها وهو ناحل لين لطيف. وهي معجزة يراها كل من يتأمل انبثاق النبتة من التربة؛ ويحس من ورائه انطلاق القوة الخفية الكامنة في النبتة الرخية. فأما حين تتقدم معارف الإنسان فقد يعن له مدى آخر من التصور في هذا النص. وقد يكون شق الأرض لتصبح صالحة للنبات أقدم بكثير مما نتصور. إنه قد يكون ذلك التفتت في صخور القشرة الأرضية بسبب الفيضانات الهائلة التي يشير إليها الفرض العلمي السابق. وبسبب العوامل الجوية الكثيرة التي يفترض علماء اليوم أنها تعاونت لتفتيت الصخور الصلبة التي كانت تكسو وجه الأرض وتكون قشرتها؛ حتى وجدت طبقة الطمي الصالحة للزرع. وكان هذا أثراً من آثار الماء تالياً في تاريخه لصب الماء صباً. مما يتسق أكثر مع هذا التتابع الذي تشير إليه النصوص.. وسواء كان هذا أم ذاك أم سواهما هو الذي حدث، وهو الذي تشير إليه الآيتان السابقتان فقد كانت المرحلة الثالثة في القصة هي النبات بكل صنوفه وأنواعه. التي يذكر منها هنا أقربها للمخاطبين، وأعمها في طعام الناس والحيوان: {فأنبتنا فيها حباً}.. وهو يشمل جميع الحبوب. ما يأكله الناس في أية صورة من صوره، وما يتغذى به الحيوان في كل حالة من حالاته. {وعنباً وقضباً}.. والعنب معروف. والقضب هو كل ما يؤكل رطباً غضاً من الخضر التي تقطع مرة بعد أخرى.. {وزيتوناً ونخلاً. وحدائق غلبا. وفاكهة وأبا}.. والزيتون والنخل معروفان لكل عربي، والحدائق جمع حديقة، وهي البساتين ذات الأشجار المثمرة المسورة بحوائط تحميها. و{غلبا} جمع غلباء. أي ضخمة عظيمة ملتفة الأشجار. والفاكهة من ثمار الحدائق و{الأب} أغلب الظن أنه الذي ترعاه الأنعام. وهو الذي سأل عنه عمر بن الخطاب ثم راجع نفسه فيه متلوّماً! كما سبق في الحديث عن سورة النازعات! فلا نزيد نحن شيئاً! هذه هي قصة الطعام. كلها من إبداع اليد التي أبدعت الإنسان. وليس فيها للإنسان يد يدعيها، في أية مرحلة من مراحلها.. حتى الحبوب والبذور التي قد يلقيها هو في الأرض.. إنه لم يبدعها، ولم يبتدعها. والمعجزة في إنشائها ابتداء من وراء تصور الإنسان وإدراكه. والتربة واحدة بين يديه، ولكن البذور والحبوب منوعه، وكل منها يؤتى أكله في القطع المتجاورات من الأرض. وكلها تسقى بماء واحد، ولكن اليد المبدعة تنوع النبات وتنوع الثمار؛ وتحفظ في البذرة الصغيرة خصائص أمها التي ولدتها فتنقلها إلى بنتها التي تلدها.. كل أولئك في خفية عن الإنسان! لا يعلم سرها ولا يقضي أمرها، ولا يستشار في شأن من شؤونها.. هذه هي القصة التي اخرجتها يد القدرة: {متاعاً لكم ولأنعامكم}.. إلى حين. ينتهي فيه هذا المتاع؛ الذي قدره الله حين قدر الحياة. ثم يكون بعد ذلك أمر آخر يعقب المتاع. أمر يجدر بالإنسان أن يتدبره قبل أن يجيء: {فإذا جآءت الصآخة، يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه. لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه.. وجوه يومئذ مسفرة، ضاحكة مستبشرة، ووجوه يومئذ عليها غبرة، ترهقها قترة، أولئك هم الكفرة الفجرة}.. فهذه هي خاتمة المتاع. وهذه هي التي تتفق مع التقدير الطويل، والتدبير الشامل، لكل خطوة وكل مرحلة في نشأة الإنسان. وفي هذا المشهد ختام يتناسق مع المطلع. مع الذي جاء يسعى وهو يخشى. والذي استغنى واعرض عن الهدى. ثم هذان هما في ميزان الله. «والصاخة لفظ ذو جرس عنيف نافذ، يكاد يخرق صماخ الأذن، وهو يشق الهواء شقاً، حتى يصل إلى الأذن صاخاً ملحاً!» «وهو يمهد بهذا الجرس العنيف للمشهد الذي يليه: مشهد المرء يفر وينسلخ من ألصق الناس به: {يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه}.. أولئك الذين تربطهم به وشائج وروابط لا تنفصم؛ ولكن هذه الصاخة تمزق هذه الروابط تمزيقاً، وتقطع تلك الوشائج تقطيعاً. «والهول في هذا المشهد هول نفسي بحت، يفزع النفس ويفصلها عن محيطها. ويستبد بها استبداداً. فلكل نفسه وشأنه، ولديه الكفاية من الهم الخاص به، الذي لا يدع له فضلة من وعي أو جهد: {لكل امرئ منهم يومئذ شان يغنيه}.. » والظلال الكامنة وراء هذه العبارة وفي طياتها ظلال عميقة سحيقة. فما يوجد أخصر ولا أشمل من هذا التعبير، لتصوير الهم الذي يشغل الحس والضمير: {لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} ! ذلك حال الخلق جميعاً في هول ذلك اليوم.. إذا جاءت الصاخة.. ثم يأخذ في تصوير حال المؤمنين وحال الكافرين، بعد تقويمهم ووزنهم بميزان الله هناك: {وجوه يومئذ مسفرة. ضاحكة مستبشرة}.. فهذه وجوه مستنيرة منيرة متهللة ضاحكة مستبشرة، راجية في ربها، مطمئنة بما تستشعره من رضاه عنها. فهي تنجو من هول الصاخة المذهل لتتهلل وتستنير وتضحك وتستبشر. أو هي قد عرفت مصيرها، وتبين لها مكانها، فتهللت واستبشرت بعد الهول المذهل.. {ووجوه يومئذ عليها غبرة. ترهقها قترة. أولئك هم الكفرة الفجرة}.. فأما هذه فتعلوها غبرة الحزن والحسرة، ويغشاها سواد الذل والانقباض. وقد عرفت ما قدمت، فاستيقنت ما ينتظرها من جزاء.. {أولئك هم الكفرة الفجرة}.. الذين لا يؤمنون بالله وبرسالاته، والذين خرجوا عن حدوده وانتهكوا حرماته.. وفي هذا الوجوه وتلك قد ارتسم مصير هؤلاء وهؤلاء. ارتسم ملامح وسمات من خلال الألفاظ والعبارات. وكأنما الوجوه شاخصة، لقوة التعبير القرآني ودقة لمساته. بذلك يتناسق المطلع والختام.. المطلع يقرر حقيقة الميزان. والختام يقرر نتيجة الميزان. وتستقل هذه السورة القصيرة بهذا الحشد من الحقائق الضخام، والمشاهد والمناظر، والإيقاعات والموحيات. وتفي بها كلها هذا الوفاء الجميل الدقيق..
{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} هذه السورة ذات مقطعين اثنين تعالج في كل مقطع منهما تقرير حقيقة ضخمة من حقائق العقيدة: الأولى حقيقة القيامة، وما يصاحبها من انقلاب كوني هائل كامل، يشمل الشمس والنجوم والجبال والبحار، والأرض والسماء، والأنعام والوحوش، كما يشمل بني الإنسان. والثانية حقيقة الوحي، وما يتعلق بها من صفة الملك الذي يحمله، وصفة النبي الذي يتلقاه، ثم شأن القوم المخاطبين بهذا الوحي معه، ومع المشيئة الكبرى التي فطرتهم ونزلت لهم الوحي. والإيقاع العام للسورة بحركة جائحة. تنطلق من عقالها، فتقلب كل شيء، وتنثر كل شيء؛ وتهيج الساكن وتروع الآمن؛ وتذهب بكل مألوف وتبدل كل معهود؛ وتهز النفس البشرية هزاً عنيفاً طويلاً، يخلعها من كل ما اعتادت أن تسكن إليه، وتتشبث به، فإذا هي في عاصفة الهول المدمر الجارف ريشة لا وزن لها ولا قرار. ولا ملاذ لها ولا ملجأ إلا في حمى الواحد القهار، الذي له وحده البقاء والدوام، وعنده وحده القرار والاطمئنان.. ومن ثم فالسورة بإيقاعها العام وحده تخلع النفس من كل ما تطمئن إليه وتركن، لتلوذ بكنف الله، وتأوي إلى حماه، وتطلب عنده الأمن والطمأنينة والقرار.. وفي السورة مع هذا ثروة ضخمة من المشاهد الرائعة، سواء في هذا الكون الرائع الذي نراه، أو في ذلك اليوم الآخر الذي ينقلب فيه الكون بكل ما نعهده فيه من أوضاع. وثروة كذلك من التعبيرات الأنيقة! المنتقاة لتلوين المشاهد والإيقاعات. وتلتقي هذه وتلك في حيز السورة الضيق، فتضغط على الحس وتنفذ إليه في قوة وإيحاء. ولولا أن في التعبير ألفاظاً وعبارات لم تعد مألوفة ولا واضحة للقارئ في هذا الزمان، لآثرت ترك السورة تؤدي بإيقاعها وصورها وظلالها وحقائقها ومشاهدها، ما لا تؤديه أية ترجمة لها في لغة البشر؛ وتصل بذاتها إلى أوتار القلوب فتهزها من الأعماق. ولكن لا بد مما ليس منه بد. وقد بعدنا في زماننا هذا عن مألوف لغة القرآن! إذا الشمس كورت، وإذا النجوم انكدرت، وإذا الجبال سيرت، وإذا العشار عطلت، وإذا الوحوش حشرت، وإذا البحار سجرت، وإذا النفوس زوجت، وإذا الموءودة سئلت: بأى ذنب قتلت؟ وإذا الصحف نشرت، وإذا السمآء كشطت، وإذا الجحيم سعرت، وإذا الجنة أزلفت.. علمت نفس مآ أحضرت}.. هذا هو مشهد الانقلاب التام لكل معهود، والثورة الشاملة لكل موجود. الانقلاب الذي يشمل الأجرام السماوية والأرضية، والوحوش النافرة والأنعام الأليفة، ونفوس البشر، وأوضاع الأمور. حيث ينكشف كل مستور، ويعلم كل مجهول؛ وتقف النفس أمام ما أحضرت من الرصيد والزاد في موقف الفصل والحساب. وكل شيء من حولها عاصف؛ وكل شيء من حولها مقلوب! وهذه الأحداث الكونية الضخام تشير بجملتها إلى أن هذا الكون الذي نعهده. الكون المنسق الجميل، الموزون الحركة، المضبوط النسبة، المتين الصنعة، المبني بأيد وإحكام. أن هذا الكون سينفرط عقد نظامه، وتتناثر أجزاؤه، وتذهب عنه صفاته هذه التي يقوم بها؛ وينتهي إلى أجله المقدر، حيث تنتهي الخلائق إلى صورة أخرى من الكون ومن الحياة ومن الحقائق غير ما عهدت نهائياً في هذا الكون المعهود. وهذا ما تستهدف السورة إقراره في المشاعر والقلوب كي تنفصل من هذه المظاهر الزائلة مهما بدت لها ثابتة وتتصل بالحقيقة الباقية.. حقيقة الله الذي لا يحول ولا يزول، حين يحول كل شيء من الحوادث ويزول. ولكي تنطلق من إسار المعهود المألوف في هذا الكون المشهود. إلى الحقيقة المطلقة التي لا تتقيد بزمان ولا مكان ولا رؤية ولا حس، ولا مظهر من المظاهر التي تقيدها في ظرف أو إطار محدود! وهذا هو الشعور العام الذي ينسرب إلى النفس وهي تطالع مشاهد هذا الانقلاب المرهوب. فأما حقيقة ما يجري لكل هذه الكائنات، فعلمها عند الله؛ وهي حقيقة أكبر من أن ندركها الآن بمشاعرنا وتصوراتنا المقيدة بمألوف حسِّنا وتفكيرنا.. وأكبر ما نعهده من الانقلابات هو أن ترجف بنا الأرض في زلزال مدمر، أو يتفجر من باطنها بركان جائح، أو أن ينقض على الأرض شهاب صغير، أو صاعقة.. وأشد ما عرفته البشرية من طغيان الماء كان هو الطوفان.. كما أن أشد ما رصدته من الأحداث الكونية كان هو انفجارات جزئية في الشمس على بعد مئات الملايين من الأميال.. وهذه كلها بالقياس إلى ذلك الانقلاب الشامل الهائل في يوم القيامة.. تسليات أطفال!!! فإذا لم يكن بد أن نعرف شيئاً عن حقيقة ما يجري للكائنات، فليس أمامنا إلا تقريبها في عبارات مما نألف في هذه الحياة! إن تكوير الشمس قد يعني برودتها. وانطفاء شعلتها، وانكماش ألسنتها الملتهبة التي تمتد من جوانبها كلها الآن إلى ألوف الأميال حولها في الفضاء. كما يتبدى هذا من المراصد في وقت الكسوف. واستحالتها من الغازية المنطلقة بتأثير الحرارة الشديدة التي تبلغ 12000 درجة، والتي تحول جميع المواد التي تتكون منها الشمس إلى غازات منطلقة ملتهبة.. استحالتها من هذه الحالة إلى حالة تجمد كقشرة الأرض، وتكور لا ألسنة له ولا امتداد! قد يكون هذا، وقد يكون غيره.. أما كيف يقع والعوامل التي تسبب وقوعه فعلم ذلك عند الله. وانكدار النجوم قد يكون معناه انتثارها من هذا النظام الذي يربطها، وانطفاء شعلتها وإظلام ضوئها.. والله أعلم ما هي النجوم التي يصيبها هذا الحادث. وهل هي طائفة من النجوم القريبة منا.. مجموعتنا الشمسية مثلاً. أو مجرتنا هذه التي تبلغ مئات الملايين من النجوم.. أم هي النجوم جميعها والتي لا يعلم عددها ومواضعها إلا الله. فوراء ما نرى منها بمراصدنا مجرات وفضاءات لها لا نعرف لها عدداً ولا نهاية. فهناك نجوم سيصيبها الانكدار كما يقرر هذا الخبر الصادق الذي لا يعلم حقيقته إلا الله.. وتسيير الجبال قد يكون معناه نسفها وبسها وتذريتها في الهواء، كما جاء في سورة أخرى: {ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً} {وبست الجبال بساً فكانت هباء منبثاً} {وسيرت الجبال فكانت سراباً} فكلها تشير إلى حدث كهذا يصيب الجبال، فيذهب بثباتها ورسوخها وتماسكها واستقرارها، وقد يكون مبدأ ذلك الزلزال الذي يصيب الأرض، والذي يقول عنه القرآن: {إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها..} وكلها أحداث تقع في ذلك اليوم الطويل.. أما قوله سبحانه: {وإذا العشار عطلت}.. فالعشار هي النوق الحبالى في شهرها العاشر. وهي أجود وأثمن ما يملكه العربي. وهي في حالتها هذه تكون أغلى ما تكون عنده، لأنها مرجوة الولد واللبن، قريبة النفع. ففي هذا اليوم الذي تقع فيه هذه الأهوال تهمل هذه العشار وتعطل فلا تصبح لها قيمة، ولا يهتم بشأنها أحد.. والعربي المخاطب ابتداء بهذه الآية لا يهمل هذه العشار ولا ينفض يده منها إلا في حالة يراها أشد ما يلم به! {وإذا الوحوش حشرت}.. فهذه الوحوش النافرة قد هالها الرعب والهول فحشرت وانزوت تتجمع من الهول وهي الشاردة في الشعاب؛ ونسيت مخاوفها بعضها من بعض، كما نسيت فرائسها، ومضت هائمة على وجوهها، لا تأوي إلى جحورها أو بيوتها كما هي عادتها، ولا تنطلق وراء فرائسها كما هو شأنها. فالهول والرعب لا يدعان لهذه الوحوش بقية من طباعها وخصائصها! فكيف بالناس في ذلك الهول العصيب؟! وأما تسجير البحار فقد يكون معناه ملؤها بالمياه. وإما أن تجيئها هذه المياه من فيضانات كالتي يقال إنها صاحبت مولد الأرض وبرودتها (التي تحدثنا عنها في سورة النازعات) وإما بالزلازل والبراكين التي تزيل الحواجز بين البحار فيتدفق بعضها في بعض.. وإما أن يكون معناه التهابها وانفجارها كما قال في موضع آخر: {وإذا البحار فجرت} فتفجير عناصرها وانفصال الأيدروجين عن الأكسوجين فيها. أو تفجير ذراتها على نحو ما يقع في تفجير الذرة، وهو أشد هولاً. أو على نحو آخر. وحين يقع هذا فإن نيراناً هائلة لا يتصور مداها تنطلق من البحار. فإن تفجير قدر محدود من الذرات في القنبلة الذرية أو الأيدروجينية يحدث هذا الهول الذي عرفته الدنيا؛ فإذا انفجرت ذرات البحار على هذا النحو أو نحو آخر، فإن الإدراك البشري يعجز عن تصور هذا الهول؛ وتصور جهنم الهائلة التي تنطلق من هذه البحار الواسعة! وتزويج النفوس يحتمل أن يكون هو جمع الأرواح بأجسادها بعد إعادة إنشائها. ويحتمل أن يكون ضم كل جماعة من الأرواح المتجانسة في مجموعة، كما قال في موضع آخر: {وكنتم أزواجاً ثلاثة} أي صنوفاً ثلاثة هم المقربون وأصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة. أو في غير ذلك من التشكيلات المتجانسة! {وإذا الموءودة سئلت: بأي ذنب قتلت؟} وقد كان من هوان النفس الإنسانية في الجاهلية أن انتشرت عادة وأد البنات خوف العار أو خوف الفقر. وحكى القرآن عن هذه العادة ما يسجل هذه الشناعة على الجاهلية، التي جاء الإسلام ليرفع العرب من وهدتها، ويرفع البشرية كلها. فقال في موضع: {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم. يتوارى من القوم من سوء ما بشر به. أيمسكه على هون أم يدسه في التراب؟ ألا ساء ما يحكمون!} وقال في موضع: {وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا (أي البنات) ظل وجهه مسوداً وهو كظيم. أو من يُنَشّأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين؟} وقال في موضع ثالث: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم} وكان الوأد يتم في صورة قاسية. إذ كانت البنت تدفن حية! وكانوا يفتنون في هذا بشتى الطرق. فمنهم من كان إذا ولدت له بنت تركها حتى تكون في السادسة من عمرها، ثم يقول لأمها: طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها! وقد حفر لها بئراً في الصحراء، فيبلغ بها البئر، فيقول لها: انظري فيها. ثم يدفعها دفعاً ويهيل التراب عليها! وعند بعضهم كانت الوالدة إذا جاءها المخاض جلست فوق حفرة محفورة. فإذا كان المولود بنتاً رمت بها فيها وردمتها. وإن كان ابناً قامت به معها! وبعضهم كان إذا نوى ألا يئد الوليدة أمسكها مهينة إلى أن تقدر على الرعي، فيلبسها جبة من صوف أو شعر ويرسلها في البادية ترعى له إبله! فأما الذين لا يئدون البنات ولا يرسلونهن للرعي، فكانت لهم وسائل أخرى لإذاقتها الخسف والبخس.. كانت إذا تزوجت ومات زوجها جاء وليه فألقى عليها ثوبه. ومعنى هذا أن يمنعها من الناس فلا يتزوجها أحد فإن أعجبته تزوجها، لا عبرة برغبتها هي ولا إرادتها! وإن لم تعجبه حبسها حتى تموت فيرثها. أو أن تفتدي نفسها منه بمال في هذه الحالة أو تلك.. وكان بعضهم يطلق المرأة ويشترط عليها ألا تنكح إلا من أراد. إلا أن تفتدي نفسها منه بما كان أعطاها.. وكان بعضهم إذا مات الرجل حبسوا زوجته على الصبي فيهم حتى يكبر فيأخذها.. وكان الرجل تكون اليتيمة في حجره يلي أمرها، فيحبسها عن الزواج، رجاء أن تموت امرأته فيتزوجها! أو يزوجها من ابنه الصغير طمعاً في مالها أو جمالها.. فهذه كانت نظرة الجاهلية إلى المرأة على كل حال. حتى جاء الإسلام. يشنع بهذه العادات ويقبحها. وينهى عن الوأد ويغلظ فعلته. ويجعلها موضوعاً من موضوعات الحساب يوم القيامة. يذكره في سياق هذا الهول الهائج المائج، كأنه حدث كوني من هذه الأحداث العظام. ويقول: إن الموءودة ستسأل عن وأدها. . فكيف بوائدها؟! وما كان يمكن أن تنبت كرامة المرأة من البيئة الجاهلية أبداً؛ لولا أن تتنزل بها شريعة الله ونهجه في كرامة البشرية كلها، وفي تكريم الإنسان: الذكر والأنثى؛ وفي رفعه إلى المكان اللائق بكائن يحمل نفخة من روح الله العلي الأعلى. فمن هذا المصدر انبثقت كرامة المرأة التي جاء بها الإسلام، لا من أي عامل من عوامل البيئة. وحين تحقق ميلاد الإنسان الجديد باستمداد القيم التي يتعامل بها من السماء لا من الأرض، تحققت للمرأة الكرامة، فلم يعد لضعفها وتكاليف حياتها المادية على أهلها وزن في تقويمها وتقديرها. لأن هذه ليست من قيم السماء ولا وزن لها في ميزانها. إنما الوزن للروح الإنساني الكريم المتصل بالله. وفي هذا يتساوى الذكر والأنثى. وحين تعد الدلائل على أن هذا الدين من عند الله، وأن الذي جاء به رسول أوحي إليه.. تعد هذه النقلة في مكانة المرأة إحدى هذه الدلائل التي لا تخطئ. حيث لم تكن توجد في البيئة أمارة واحدة ينتظر أن تنتهي بالمرأة إلى هذه الكرامة؛ ولا دافع واحد من دوافع البيئة وأحوالها الاقتصادية بصفة خاصة لولا أن نزل النهج الإلهي ليصنع هذا ابتداء بدافع غير دوافع الأرض كلها، وغير دوافع البيئة الجاهلية بصفة خاصة. فأنشأ وضع المرأة الجديد إنشاء، يتعلق بقيمة سماوية محضة وبميزان سماوي محض كذلك! {وإذا الصحف نشرت} صحف الأعمال. ونشرها يفيد كشفها ومعرفتها، فلا تعود خافية ولا غامضة. وهذه العلنية أشد على النفوس وأنكى. فكم من سوأة مستورة يخجل صاحبها ذاته من ذكراها، ويرجف ويذوب من كشفها! ثم إذا هي جميعها في ذلك اليوم منشورة مشهودة! إن هذا النشر والكشف لون من ألوان الهول في ذلك اليوم؛ كما أنه سمة من سمات الانقلاب حيث يكشف المخبوء، ويظهر المستور، ويفتضح المكنون في الصدور. وهذا التكشف في خفايا الصدور يقابله في الكون مشهد مثله: {وإذا السماء كشطت}.. وأول ما يتبادر إلى الذهن من كلمة السماء هو هذا الغطاء المرفوع فوق الرؤوس. وكشطها إزالتها.. فأما كيف يقع هذا وكيف يكون فلا سبيل إلى الجزم بشيء. ولكنا نتصور أن ينظر الإنسان فلا يرى هذه القبة فوقه نتيجة لأي سبب يغير هذه الأوضاع الكونية، التي توجد بها هذه الظاهرة. وهذا يكفي.. ثم تجيء الخطوة الأخيرة في مشاهد ذلك اليوم الهائل المرهوب: {وإذا الجحيم سعرت. وإذا الجنة أزلفت}.. حيث تتوقد الجحيم وتتسعر، ويزداد لهيبها ووهجها وحرارتها.. أما أين هي؟ وكيف تتسعر وتتوقد؟ وبأي شيء تتوقد؟ فليس لدينا من ذلك إلا قوله تعالى: {وقودها الناس والحجارة}. وذلك بعد إلقاء أهلها فيها. أما قبل ذلك فالله أعلم بها وبوقودها! وحيث تقرب الجنة وتظهر لروادها الموعودين بها، وتبدو لهم سهولة مدخلها، ويسر ولوجها. فهي مزلفة مقربة مهيأة. واللفظ كأنما يزحلقها أو يزحلق الأقدام بيسر إليها!! عندما تقع هذه الأحداث الهائلة كلها، في كيان الكون، وفي أحوال الأحياء والأشياء. عندئذ لا يبقى لدى النفوس شك في حقيقة ما عملت، وما تزودت به لهذا اليوم، وما حملت معها للعرض، وما أحضرت للحساب: {علمت نفس ما أحضرت}.. كل نفس تعلم، في هذا اليوم الهائل ما معها وما لها وما عليها.. تعلم وهذا الهول يحيط بها ويغمرها.. تعلم وهي لا تملك أن تغير شيئاً مما أحضرت، ولا أن تزيد عليه ولا أن تنقص منه.. تعلم وقد انفصلت عن كل ما هو مألوف لها، معهود في حياتها أو تصورها. وقد انقطعت عن عالمها وانقطع عنها عالمها. وقد تغير كل شيء وتبدل كل شيء، ولم يبق إلا وجه الله الكريم، الذي لا يتحول ولا يتبدل.. فما أولى أن تتجه النفوس إلى وجه الله الكريم، فتجده سبحانه عندما يتحول الكون كله ويتبدل! وبهذا الإيقاع ينتهي المقطع الأول وقد امتلأ الحس وفاض بمشاهد اليوم الذي يتم فيه هذا الانقلاب. ثم يجيء المقطع الثاني في السورة يبدأ بالتلويح بالقسم بمشاهد كونية جميلة، تختار لها تعبيرات أنيقة.. القسم على طبيعة الوحي، وصفة الرسول الذي يحمله، والرسول الذي يتلقاه، وموقف الناس حياله وفق مشيئة الله: {فلا أقسم بالخنس، الجوار الكنس، والليل إذا عسعس، والصبح إذا تنفس. إنه لقول رسول كريم، ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين. وما صاحبكم بمجنون. ولقد رآه بالأفق المبين، وما هو على الغيب بضنين. وما هو بقول شيطان رجيم. فأين تذهبون؟ إن هو إلا ذكر للعالمين. لمن شآء منكم أن يستقيم. وما تشآءون إلا أن يشآء الله رب العالمين}.. والخنس الجوار الكنس.. هي الكواكب التي تخنس أي ترجع في دورتها الفلكية وتجري وتختفي. والتعبير يخلع عليها حياة رشيقة كحياة الظباء. وهي تجري وتختبئ في كناسها وترجع من ناحية أخرى. فهناك حياة تنبض من خلال التعبير الرشيق الأنيق عن هذه الكواكب، وهناك إيحاء شعوري بالجمال في حركتها. في اختفائها وفي ظهورها. في تواريها وفي سفورها. في جريها وفي عودتها. يقابله إيحاء بالجمال في شكل اللفظ وجرسه. {والليل إذا عسعس}.. أي إذا أظلم. ولكن اللفظ فيه تلك الإيحاءات كذلك. فلفظ عسعس مؤلف من مقطعين: عس. عس. وهو يوحي بجرسه بحياة في هذا الليل، وهو يعس في الظلام بيده أو برجله لا يرى! وهو إيحاء عجيب واختيار للتعبير رائع. ومثله: {والصبح إذا تنفس}.. بل هو أظهر حيوية، وأشد إيحاء. والصبح حي يتنفس. أنفاسه النور والحياة والحركة التي تدب في كل حي، وأكاد أجزم أن اللغة العربية بكل مأثوراتها التعبيرية لا تحتوي نظيراً لهذا التعبير عن الصبح. ورؤية الفجر تكاد تشعر القلب المتفتح أنه بالفعل يتنفس! ثم يجيء هذا التعبير فيصور هذه الحقيقة التي يشعر بها القلب المتفتح. وكل متذوق لجمال التعبير والتصوير يدرك أن قوله تعالى: {فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس، والليل إذا عسعس، والصبح إذا تنفس..} ثروة شعورية وتعبيرية. فوق ما يشير إليه من حقائق كونية. ثروة جميلة بديعة رشيقة؛ تضاف إلى رصيد البشرية من المشاعر، وهي تستقبل هذه الظواهر الكونية بالحس الشاعر. يلوح بهذه المشاهد الكونية التي يخلع عليها الحياة؛ ويصل روح الإنسان بأرواحها من خلال التعبير الحي الجميل عنها؛ لتسكب في روح الإنسان أسرارها، وتشي له بالقدرة التي وراءها، وتحدثها بصدق الحقيقة الإيمانية التي تدعى إليها.. ثم يذكر هذه الحقيقة في أنسب الحالات لذكرها واستقبالها: {إنه لقول رسول كريم. ذي قوة عند ذي العرش مكين. مطاع ثم أمين}.. إن هذا القرآن، وهذا الوصف لليوم الآخر.. لقول رسول كريم.. وهو جبريل الذي حمل هذا القول وأبلغه.. فصار قوله باعتبار تبليغه. ويذكر صفة هذا الرسول، الذي اختير لحمل هذا القول وإبلاغه.. {كريم} عند ربه. فربه هو الذي يقول.. {ذي قوة}.. مما يوحي بأن هذا القول يحتاج في حمله إلى قوة. {عند ذي العرش مكين}.. في مقامه ومكانته.. وعند من؟ عند ذي العرش العلي الأعلى. {مطاع ثم} هناك في الملأ الأعلى. {أمين}.. على ما يحمل وما يبلغ.. وهذه الصفات في مجموعها توحي بكرامة هذا القول وضخامته وسموه كذلك وارتفاعه. كما توحي بعناية الله سبحانه بالإنسان، حتى ليختار هذا الرسول صاحب هذه الصفة ليحمل الرسالة إليه، ويبلغ الوحي إلى النبي المختار منه.. وهي عناية تخجل هذا الكائن، الذي لا يساوي في ملك الله شيئاً، لولا أن الله سبحانه يتفضل عليه فيكرمه هذه الكرامة! فهذه صفة الرسول الذي حمل القول وأداه، فأما الرسول الذي حمله إليكم فهو {صاحبكم}.. عرفتموه حق المعرفة عمراً طويلاً. فما لكم حين جاءكم بالحق تقولون فيه ما تقولون. وتذهبون في أمره المذاهب، وهو {صاحبكم} الذي لا تجهلون. وهو الأمين على الغيب الذي يحدثكم عنه عن يقين: {وما صاحبكم بمجنون. ولقد رآه بالأفق المبين. وما هو على الغيب بضنين. وما هو بقول شيطان رجيم. فأين تذهبون؟ إن هو إلا ذكر للعالمين}.. ولقد قالوا عن النبي الكريم الذي يعرفونه حق المعرفة، ويعرفون رجاحة عقله، وصدقه وأمانته وتثبته، قالوا عنه: إنه مجنون. وإن شيطاناً يتنزل عليه بما يقول. قال بعضهم هذا كيدا له ولدعوته كما وردت بذلك الأخبار. وقاله بعضهم عجباً ودهشة من هذا القول الذي لا يقوله البشر فيما يألفون ويعهدون. وتمشياً مع ظنهم أن لكل شاعر شيطاناً يأتيه بالقول الفريد. وأن لكل كاهن شيطاناً يأتيه بالغيب البعيد. وأن الشيطان يمس بعض الناس فينطق على لسانهم بالقول الغريب! وتركوا التعليل الوحيد الصادق، وهو أنه وحي وتنزيل من رب العالمين. فجاء القرآن يحدثهم في هذا المقطع من السورة عن جمال الكون البديع، وحيوية مشاهده الجميلة. ليوحي إلى قلوبهم بأن القرآن صادر عن تلك القدرة المبدعة، التي أنشأت ذلك الجمال. على غير مثال. وليحدثهم بصفة الرسول الذي حمله، والرسول الذي بلغه. وهو صاحبهم الذي عرفوه. غير مجنون. والذي رأى الرسول الكريم جبريل حق الرؤية، بالأفق المبين الواضح الذي تتم فيه الرؤية عن يقين. وأنه صلى الله عليه وسلم لمؤتمن على الغيب، لا تظن به الظنون في خبره الذي يرويه عنه، فما عرفوا عنه إلا الصدق واليقين. {وما هو بقول شيطان رجيم} فالشياطين لا توحي بهذا النهج القويم. ويسألهم مستنكراً: {فأين تذهبون؟}.. أين تذهبون في حكمكم وقولكم؟ أو أين تذهبون منصرفين عن الحق وهو يواجهكم أينما ذهبتم! {إن هو إلا ذكر للعالمين} ذكر يذكرهم بحقيقة وجودهم، وحقيقة نشأتهم، وحقيقة الكون من حولهم.. {للعالمين}.. فهو دعوة عالمية من أول مرحلة. والدعوة في مكة محاصرة مطاردة. كما تشهد مثل هذه النصوص المكية.. وأمام هذا البيان الموحي الدقيق يذكرهم أن طريق الهداية ميسر لمن يريد. وأنهم إذن مسؤولون عن أنفسهم، وقد منحهم الله هذا التيسير: {لمن شاء منكم أن يستقيم}.. أن يستقيم على هدى الله، في الطريق إليه، بعد هذا البيان، الذي يكشف كل شبهة، وينفي كل ريبة، ويسقط كل عذر. ويوحي إلى القلب السليم بالطريق المستقيم. فمن لم يستقم فهو مسؤول عن انحرافه. فقد كان أمامه أن يستقيم. والواقع أن دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق من القوة والعمق والثقل بحيث يصعب على القلب التفلت من ضغطها إلا بجهد متعمد. وبخاصة حين يسمع التوجيه إليها بأسلوب القرآن الموحي الموقظ. وما ينحرف عن طريق الله بعد ذلك إلا من يريد أن ينحرف. في غير عذر ولا مبرر! فإذا سجل عليهم إمكان الهدى، ويسر الاستقامة، عاد لتقرير الحقيقة الكبرى وراء مشيئتهم. حقيقة أن المشيئة الفاعلة من وراء كل شيء هي مشيئة الله سبحانه.. {وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين}.. وذلك كي لا يفهموا أن مشيئتهم منفصلة عن المشيئة الكبرى، التي يرجع إليها كل أمر. فإعطاؤهم حرية الاختيار، ويسر الاهتداء، إنما يرجع إلى تلك المشيئة. المحيطة بكل شيء كان أو يكون! وهذه النصوص التي يعقب بها القرآن الكريم عند ذكر مشيئة الخلائق، يراد بها تصحيح التصور الإيماني وشموله للحقيقة الكبيرة: حقيقة أن كل شيء في هذا الوجود مرده إلى مشيئة الله. وأن ما يأذن به للناس من قدرة على الاختيار هو طرف من مشيئته ككل تقدير آخر وتدبير. شأنه شأن ما يأذن به للملائكة من الطاعة المطلقة لما يؤمرون، والقدرة الكاملة على أداء ما يؤمرون. فهو طرف من مشيئته كإعطاء الناس القدرة على اختيار أحد الطريقين بعد التعليم والبيان. ولا بد من إقرار هذه الحقيقة في تصور المؤمنين، ليدركوا ما هو الحق لذاته. وليلتجئوا إلى المشيئة الكبرى يطلبون عندها العون والتوفيق، ويرتبطون بها في كل ما يأخذون وما يدعون في الطريق!
|